اللواء أركان حرب
محمد نجيب (1901 - 1984) سياسي وعسكري مصري، هو أول رئيس لمصر الجمهورية، لم يستمر في سدة الحكم سوى فترة قليلة بعد إعلان الجمهورية (
يونيو 1953 -
نوفمبر 1954) حتى عزله
مجلس قيادة الثورة ووضعه تحت الإقامة الجبرية بقصر كان ملكاً
لزينب الوكيل زوجة
مصطفى النحاس باشا بضاحية
المرج شرق
القاهرة. بعيداً عن الحياة السياسية لمدة 30 سنة، مع منعه تمامًا من الخروج أو مقابلة أي شخص من خارج أسرته، حتى أنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، وشطبوا اسمه من كتب التاريخ والكتب المدرسية، وفي سنواته الأخيرة نسي كثير من المصريين أنه لا يزال على قيد الحياة حتى فوجئوا بوفاته. وكان أول حاكم مصري يحكم
مصر حكماً جمهورياً بعد أن كان ملكياً بعد قيادته
ثورة 23 يوليو الذي انتهت بخلع
الملك فاروق. أعلن مباديء الثورة الستة وحدد الملكية الزراعية. وكان له شخصيته وشعبيته المحببة في صفوف
الجيش المصري والشعب المصري. حتي قبل الثورة لدوره البطولي في حرب
فلسطين.
//
نشأتهولد محمد نجيب
بالسودان بساقية أبو العلا
بالخرطوم، من أب
مصري وأم مصرية سوادنية المنشأ، اسمه بالكامل
محمد نجيب يوسف قطب القشلان، يوجد تضارب حول تاريخ ميلاده، حيث أن التاريخ الرسمي لدى التسنين الذي قام به
الجيش هو
19 فبراير 1901، وعادة لا يكون دقيقا، أما في مذكراته، فقد ذكر أن أحد كبار عائلته قال له أنه ولد قبل أحد أقربائه بأربعين يوما، وبالحساب وجد أن تاريخه ميلاده هو
7 يوليو 1902.
بدأ والده يوسف نجيب حياته مزارعا في قريته النحارية مركز
كفر الزيات بمحافظة الغربية في
مصر، وهى بجوار قرية
إبيارالشهيرة ثم التحق بالمدرسة الحربية وتفوق فيها, وبعد تخرجه شارك في حملات استرجاع
السودان 1898, تزوج يوسف نجيب من سودانية وأنجب منها ابنه الأول عباس لكنها توفيت, فتزوج من السيدة "زهرة" ابنة الأميرالاي محمد بك عثمان في عام
1900, والأميرالاي محمد هو ضابط مصري تعيش أسرته في
أم درمان واستشهد في أحدي المعارك ضد الثورة المهدية, وقد أنجب يوسف من السيدة زهرة ثلاثة أبناء هم محمد نجيب وعلي نجيب ومحمود نجيب, وأنجب أيضا ستة بنات. عندما بلغ محمد نجيب 13 عاما توفي والده, تاركا وراءه أسرة مكونة من عشرة أفراد، فأحس بالمسئولية مبكرا, ولم يكن أمامه إلا الاجتهاد في كلية جوردن حتي يتخرج سريعا.
حياته تلقى محمد نجيب تعليمه بكتاب وادي مدني عام
1905 حيث حفظ
القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، انتقل والده إلى وادي حلفا عام
1908 فألتحق بالمدرسة الابتدائية هناك، ثم انتقل مع والده عام
1917 لضواحي بلدة وادي مدني بمديرية النيل الأزرق واكمل تعليمة الابتدائي وحصل على الشهادة الأبتدائية فيها، ثم التحق بكلية الغوردون عام
1913.
يقول محمد نجيب في مذكراته : " كنت طالبا في السنة الثانية بالكلية
1914 وجاء المستر سمبسون، مدرس
اللغة الانجليزية، ليملي علينا قطعة إملاء جاء فيها: أن
مصر يحكمها البريطانيون، فلم يعجبني ذلك. وتوقفت عن الكتابة. ونهضت واقفا وقلت له: لا يا سيدي
مصر تحتلها
بريطانيا فقط ولكنها مستقلة داخليا وتابعه
لتركيا، فثار المدرس
الانجليزي وغضب وأصر علي أن اذهب أمامه إلي مكتبه وأمر بجلدي عشر جلدات علي
ظهري واستسلمت للعقوبة المؤلمة دون أن أتحرك أو أفتح
فمي"
ذهب إلى
مصر حيث حصل على الشهادة الابتدائية المصرية (أثناء دراسته في السنة النهائية بكلية غوردون) وعاد للخرطوم عام
1916.
بعد أن تخرج من الكلية التحق بمعهد الأبحاث الاستوائية لكي يتدرب علي الآلة الكاتبة تمهيدا للعمل
كمترجم براتب ثلاثة جنيهات شهريا, وبعد التخرج لم يقتنع بما حققه وأصر علي دخول
الكلية الحربية في
القاهرة.
التحق بالكلية الحربية في
مصر في
أبريل عام
1917 وتخرج فيها في
23 يناير 1918، ثم سافر إلى
السودان في
19 فبراير 1918 والتحق بذات الكتيبة المصرية التي كان يعمل بها والده ليبدأ حياته كضابط في
الجيش المصري بالكتيبة 17 مشاة، ومع قيام
ثورة 1919 أصر علي المشاركة فيها علي الرغم من مخالفة ذلك لقواعد الجيش, فيسافر إلي
القاهرة ويجلس علي سلالم بيت الأمة حاملا علم مصر وبجواره مجموعة من الضباط الصغار. ثم انتقل إلى سلاح الفرسان في شندي. وفد ألغيت الكتيبة التي يخدم فيها، فأنتقل إلى فرقة العربة الغربية بالقاهرة عام
1921.
حصل على شهادة الكفاءة، ودخل مدرسة البوليس لمدة شهرين، واحتك بمختلف فئات الشعب المصري، وتخرج وخدم في أقسام عابدين،
مصر القديمة،
بولاق،
حلوان. عاد مرة أخرى إلى
السودان عام
1922 مع الفرقة 13 السودانية وخدم في " واو " وفي بحر الغزال، ثم انتقل إلى وحدة مدافع الماكينة في " ملكال ".
انتقل بعد ذلك إلى الحرس الملكي بالقاهرة في
28 أبريل 1923، ثم انتقل إلى الفرقة الثامنة
بالمعادي بسبب تأييده للمناضلين السودانيين. حصل على شهادة الباكلوريا عام
1923، والتحق بكلية الحقوق، ورقي إلى رتبة
الملازم أول عام
1924، وكان يجيد اللغات الانجليزية والفرنسية والايطالية والالمانية والعبرية، ورغم مسؤوليته فقد كان شغوفا بالعلم.
في عام
1927 كان محمد نجيب أول ضابط في
الجيش المصري يحصل على ليسانس الحقوق، ودبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام
1929 ودبلوم آخر في الدراسات العليا في القانون الخاص عام
1931 وبدأ في إعداد رسالة الدكتوراه ولكن طبيعه عمله العسكري، وكثرة تنقلاته حال دون إتمامها.
وفي عام
1929 تعلم محمد نجيب درسا من
مصطفى النحاس, فقد أصدر
الملك فؤاد قراره بحل البرلمان لأن أغلبية أعضائه كانوا من
حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك فتخفى في ملابس خادم نوبي، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس، وعرض عليه تدخل الجيش لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس قال له : أنأ أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة, ,أن تكون الأمة هي مصدر السلطات,,,كان درسا هاما تعلم من خلاله الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية
الديمقراطية، وهو الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام
1954.
رقي إلى رتبة اليوزباشي (
نقيب) في
ديسمبر 1931، ونقل إلى السلاح الحدود عام
1934، ثم انتقل إلى
العريش. كان ضمن اللجنة التي أشرفت على تنظيم الجيش المصري في
الخرطوم بعد
معاهدة 1936 ورقي لرتبة الصاغ (
رائد) في
6 مايو 1938، ورفض في تلك العام القيام بتدريبات عسكرية مشتركة مع
الإنجليز في
مرسى مطروح.
عقب حادث
4 فبراير 1942 وهو الحادث الذي حاصرت خلاله الدبابات البريطانية قصر
الملك فاروق لإجباره على إعادة
مصطفى النحاس إلى رئاسة الوزراء أو أن يتنازل عن
العرش. غضب محمد نجيب وكان وقتها برتبة صاغ (
رائد) وذهب إلى حد تقديم استقالته احتجاجا وغضبا لانه لم يتمكن من حماية ملكه الذي اقسم له يمين الولاء، وقد شكر المسؤولون في
قصر عابدين مشاعره ورفضوا تسلم استقالة.
رقي إلى رتبة القائمقام (
عقيد) في
يونيو 1944، وفي تلك السنة عين حاكما إقليميا لسيناء، وفي عام
1947 كان مسؤولا عن مدافع الماكينه في
العريش، ورقي لرتبة الأميرالاي (
عميد) عام
1948.
اشترك في حرب
فلسطين عام
1948 ورغم رتبته الكبيرة فقد كان على رأس صفوف قواته فيها، وجرح 3 مرات وعمل قائدا لللواء الأول، ثم اللواء الثاني فالثالث فالرابع. وتعتبر معركة التبه (86) في دير البلح من أهم المعارك التي أشترك فيها في فلسطين وعددها (21) معركة، حيث أصيب إصابة بالغة كادت أن تودي بحياته.
عين قائدا لمدرسة الضباط العظام عام
1948، ثم سافر إلى
فلسطين، حيث تسلم قيادة اللواء العاشر بالإضافة إلى الرابع مشاة، وعقب عودته عين قائدا لمدرسة الضباط العظام مرة أخرى عام
1949، وعين في العام نفسه مديرا لسلاح الحدود.
رقي إلى رتبة
اللواء في
9 ديسمبر 1950، وأصطدم بالملك فاروق عام
1951 حين طلب منه ترقية حسين سري وكيل سلاح الحدود الذي يرأسه محمد نجيب فرفض ترقيته، فامتعض الملك منه، وقام بتعين حسين سري مديراً لسلاح الحدود بدلاً منه، وعين محمد نجيب مديراً لسلاح المشاة.
انتخب رئيسا لمجلس إدارة نادي الضباط في
1 يناير 1952 بأغلبية الأصوات ولكن
الملك فاروق أمر بحل المجلس.
قاد ثورة
23 يوليو 1952 وعرض عليه الملك فاروق منصب وزير الحربية ومنحه رتبة
فريق مع مرتب وزير لكنه تنازل عنهم بعد خروج الملك فاروق إلى المنفى.
شكل أول وزارة بعد إستقالة
علي ماهر باشا عام
1952، تولى رئاسة الجمهورية عام
1953.
أقيل من جميع مناصبه في
14 نوفمبر 1954 ووضع تحت الإقامة الجبرية.
مشاركته في حرب 1948كانت بداية معرفة محمد نجيب علي المستوي الشعبي, وعلي مستوي
الجيش المصري, أثناء مشاركته في
حرب 1948، ورغم رتبته الكبيرة (
عميد) كان على رأس صفوف قواته، أصيب في هذه
الحرب 7 مرات لم يسجل منها سوي ثلاثة إصابات خطيرة، وأخطرها الإصابة الثالثة الأخيرة في
معركة التبة 86 في
ديسمبر 1948 حيث أصيب برصاصات أثناء محاولته إنقاذ أحد جنوده الذي كانت قد تعطلت دباباته كانت الإصابة شديدة حيث استقرت علي بعد عدة سنتيمترات من قلبه, وحينما اختبأ خلف شجرة وجد
الدم يتفجر من صدره، وكتب وصيه لأولاده قال فيها " تذكروا يا أبنائي أن أبيكم مات بشرف..وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة في
فلسطين ويجاهد لوحدة وادي النيل"
وعندما تم نقله إلي
المستشفى اعتقد الأطباء أنه استشهد, ودخل اليوزباشي صلاح الدين شريف لإلقاء نظرة الوادع علي جسده فنزع الغطاء وسقطت دمعة علي وجه محمد نجيب وتحققت المعجزة فقد تحركت عيناه فجأة فأدرك الأطباء أنه لا يزال علي قيد الحياة وأسرعوا بإسعافه, وحصل علي نجمة فؤاد العسكرية الأولي تقديرا لشجاعته في هذه
الحرب فقد كان أول
ضابط مصري يقود ما يربو علي الفيلق.
انضمامه لحركة الضباط الأحرار بعد
حرب 1948 عاد إلي
القاهرة قائدا لمدرسة الضباط العظام, وتيقن أن العدو الرئيسي ليس في
فلسطين وإنما الفساد الذي ينخر كالسوس في
مصر والذي كان يتمثل في الملك وكبار الضباط والحاشية والإقطاع, وكان يردد دائما أن المعركة الحقيقة في
مصر وليست في
فلسطين، ولا يتردد أن يقول هذا الكلام أمام من يثق فيهم من الضباط, وفي فترة من الفترات كان الصاغ
عبد الحكيم عامر أركان حرب للواء محمد نجيب, ويبدو أن كلام نجيب عن الفساد في
القاهرة قد أثر فيه فذهب إلي صديقه
جمال عبد الناصر وقال له كما روي عامر لنجيب بعد ذلك : لقد عثرت في اللواء محمد نجيب علي كنز عظيم.
كان
جمال عبدالناصر قد شكل تنظيم
الضباط الأحرار, وأراد أن يقود التنظيم أحد الضباط الكبار لكي يحصل التنظيم علي تأييد باقي الضباط, وبالفعل عرض عبد الناصر الأمر علي محمد نجيب فوافق علي الفور. يقول
ثروت عكاشة – أحد الضباط الأحرار - في كتابه "مذكراتي بين السياسة والثقافة": " كان اللواء محمد نجيب أحد قادة الجيش المرموقين لأسباب ثلاثة : أولها أخلاقياته الرفيعة, وثانيها ثقافته الواسعة فهو حاصل علي ليسانس الحقوق، وخريج كلية أركان الحرب ويجيد أكثر من لغة ويلم باللغة العبرية، وثالثها شجاعته في حرب
فلسطين التي ضرب فيها القدوة لغيره وظفر بإعجاب الضباط كافة في ميدان القتال".
كان اختيار تنظيم الضباط الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم داخل الجيش, فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون علي باقي ضباط الجيش الانضمام إلي الحركة كانوا يسألون من القائد، وعندما يعرفوا أنه اللواء محمد نجيب يسارعون بالانضمام.
ويؤكد اللواء
جمال حماد ـ أحد الضباط الأحرار ـ أن الحركة لم تكن لتنجح لولا انضمام اللواء محمد نجيب إليها لما كان له من سمعة طيبة في الجيش، ولما كان منصبه ذو أهمية إذ أن باقي الضباط الأحرار كانوا ذوو رتب صغيرة وغير معروفين.
ترشحه لانتخابات نادي الضباطيقول محمد نجيب في مذكراته : انتخابات نادي الضباط كانت هي الخطوة الفعالة الأولي في طريق ثورة
يوليو.. فقبل أنتخابات النادي كانت اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الأحرار تعتقد أنه ليس من الممكن القيام بالثورة قبل عام
1955... لكن بعد الانتخابات أحس الضباط بمدي قوتهم.. رشح محمد نجيب نفسه رئيسا لمجلس إدارة النادي لجس نبض الجيش واختبار مدي قوة الضباط الأحرار وتحديا للملك... وقبل الملك التحدي..ورشح حسين سري عامر.. كانت الانتخابات أول اختبار حقيقي لشعبية اللواء محمد نجيب داخل الجيش.
ومع طلوع فجر اليوم الأول من
يناير 1952 أعُلنت النتيجة وحصل محمد نجيب علي أغلبية ساحقة شبة جماعية ولم يحصل منافسيه سوي علي 58 صوتا فقط, كانت النتيجة صدمة شديدة للملك فقرر حل مجلس إدارة النادي.
أدرك الملك الشعبية الطاغية لمحمد نجيب وسط الضباط، فرشحه وزيرا للحربية قبيل الثورة بأيام؛ في محاولة لامتصاص غضب الضباط، ولكن المحاولة تأخرت كثيرا فقد دارت عجلة الأحداث سريعا لتشهد
مصر ميلاد عهد جديد صباح
23 يوليو 1952.
قيادته لثورة 23 يوليو 1952 في ليلة لن ينساها تاريخ
مصر والمنطقة, وقع في
القاهرة حدث غير تاريخها جذرياً ومازلنا نشهد آثاره إلى اليوم، إنها ليلة
23 يوليو حينما خرج
الجيش من ثكناته معلنا غضبه عما يحدث في البلاد.. وتصدرت صورة اللواء محمد نجيب الصفحة الأولي لجريدة "المصري" وفوقها مانشيت: اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في
الجيش.
كانت ثورة
يوليو في بدايتها حركة، مجرد حركة عسكرية, لكنها لاقت قبول الشعب المصري واستقبلتها الجماهير بحفاوة بالغة وأطلقت عليها "ثورة".. فقد كان قائدها رجل شهد له الكل بالشجاعة وكان محمد نجيب سر نجاح الثورة.. فقد كان برتبة
لواء..أما باقي
الضباط الأحرار فلم يتجاوز أكبرهم رتبة
بكباشي... وبفضل نجيب تحولت الحركة إلي ثورة، وإذا كان قد قدر لثورة يوليو أن تفشل لكان جزاء محمد نجيب
الإعدام رميا
بالرصاص طبقا لتقاليد
الجيش.
في ليلة
23 يوليو لعب محمد نجيب أخطر دور في نجاح الحركة, فقد انكشف سر الثورة الساعة 9:30 مساءا، وعرف أن مؤتمرا لرئيس الأركان الفريق حسين فريد سيعقد في الساعة العاشرة في مقر القيادة لترتيب القبض علي
الضباط الأحرار، فقام علي الفور بإبلاغ
يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة، وبالفعل تحرك
يوسف صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة.. ولولا هذا التحرك لفشلت الثورة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.
بالرغم من خطورة الدور الذي قام به اللواء محمد نجيب في نجاح الثورة إلا أن البعض حاول أن يقلل من دوره..وحاولوا أن يصوروا انه لم يكن له علم بالثورة وإنما هو "ركب الموجة" والبعض حاول ادعاء أن
الضباط الأحرار استخدموا نجيب مجرد واجهة لإنجاح الثورة.. بل وصل الأمر ببعضهم أن يدعي أن محمد نجيب يوم الثورة كان مريضا في منزله وليس في ذهنه شيء عن أيه ثورة.. وربما كان أمله الوحيد في شهر يوليو أن يغادر فراشه إلي عمله في سلاح الفرسان, حتي استيقظ علي تليفون من
الضباط الأحرار يقولون له : تفضل لقد قمنا بثورة واخترناك زعيما لها... وقد نتعجب حينما نعلم أن قائل هذا الكلام هو
أنور السادات في كتابه "قصة الثورة كاملة" والذي كتبه في عهد عبد الناصر.
وبينما كان جزء يقول أن محمد نجيب هو المحرك الرسمي للثورة لعلو رتبته ومكانته لدى
الجيش، إلا أن هذا لا ينفي دوره الكبير في التخطيط والإعداد للثورة، وهو من حدد أهدافها الأساسية والتي تدرس في المدارس حتى الآن، بالرغم من استغلال رجال الثورة لتلك المبادئ لتحقيق مصالح شخصية في الخفاء، ونسب مفاضلها في العلن لأنفسهم
وفي الواقع أن نجيب أراد بالثورة أن يطهر
الجيش ونظام الحكم من المسؤلين الفاسدين، ثم إقامة حكومة مدنية برلمانية جديدة وإعادة الجيش لثكناته، ولكنه اضطر لتأجيل تلك الخطوة مرارا تحت ضغوط زملاؤه في مجلس قيادة الثورة والذين أرادوا الاستمرار، حتى بات رفضه لهذا الوضع واضحا وعلنيا، فقاموا بعزله شيئا فشيئا من دائرة اتخاذ القرار، وحاولوا إقالته مرة فبائت المحاولة بالفشل لغضب الشعب، ثم استقال هو بنفسه لغضبه تجاه تصرفات رجال الثورة، فقاموا باعتقاله وتحديد إقامته في فيلا بحي
المرج.
في عدد
سبتمبر 1952، وضعت
مجلة تايم الأمريكية صورة محمد نجيب على غلافها بتعليق "رجل مصر نجيب" و"لقد حصلنا على كفايتنا من الفساد".
خلافة مع ضباط مجلس قيادة الثورة بعد مرور عام على قيام الثورة تركزت كل الأضواء علي اللواء محمد نجيب باعتباره الرجل الذي قاد الثورة وطرد الملك وأنقذ
مصر من عهد
الظلم والطغيان وأصبح أمل البلاد في تخليصها من الاستعمار البريطاني الجاثم علي صدرها منذ
1882... كانت صوره وخطبه تتصدر الصفحات الأولي من الجرائد والمجلات المصرية والعربية والأجنبية.
وبعد فترة ليست بالقصيرة بدأ بعض الضباط يحاولون أن يجنوا ثمار نجاح الحركة ولو علي حساب المبادئ والأخلاق,, حتي شاع بين الناس أن الثورة طردت ملك وجاءت بثلاثة عشر ملك.. يقول نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" : لقد خرج الجيش من الثكنات... وانتشر في كل المصالح والوزارات المدنية فوقعت الكارثة التي لا نزال نعاني منها إلي الآن في
مصر,, كان كل ضابط من ضباط القيادة يريد أن يكون قويا..فأصبح لكل منهم "شلة" وكانت هذه الشلة غالبا من المنافقين الذين لم يلعبوا دورا لا في التحضير للثورة ولا في القيام بها".
لاحظ محمد نجيب بعض السلوكيات الخاطئة التي يرتكبها بعض الضباط في حق الثورة وفي حق الشعب الذي وثق بهم. فكان أول شيء فعله ضباط القيادة أنهم غيروا سياراتهم
الجيب وركبوا سيارات الصالون الفاخرة, وترك أحدهم شقته المتواضعة واستولي علي قصر من قصور الأمراء حتي يكون قريبا من أحدي الأميرات التي كان قصرها قريبا من القصر الذي استولي عليه.. وصدمت هذه التصرفات باقي الضباط الأحرار الذين يتصفون بالمثالية فحمل بعضهم هذه الفضائح وواجهوا بها ضباط القيادة.. لكنهم سمعوهم وقرروا التخلص منهم مثلما حدث مع ضباط المدفعية.
كان أول خلاف بينه وبين ضباط القيادة حول محكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة زعماء العهد الملكي، ثم حدث خلاف ثاني بعد صدور نشرة باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم
مصطفى النحاس، فرفض اعتقال النحاس باشا, لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس, وأصدرت محكمة الثورة قرارات ضاعفت من كراهية الناس للثورة منها مصدرة 322 فدانا من أملاك زينب الوكيل حرم النحاس باشا, كما حكمت علي أربعة من الصحفيين بالمؤبد وبمصادرة صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية.
ويضاف إلي هذه القرارات قرارات أخرى صدرت رغم أنه رفض التوقيع عليها منها القرار الجمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة من المصريين من
الأخوان المسلمين, وزاد الصدام بينه وبين مجلس القيادة عندما اكتشف أنهم ينقلون الضباط دون مشورته، ورفض
زكريا محي الدين أن يؤدي اليمين الدستورية أمامه بعد تعيينه وزيرا للداخلية وكذلك رفض
جمال سالم.
وذكر في مذكراته أنه أكتشف أن رجال الثورة كانوا قد عقدوا العديد من الاجتماعات بدونه، كل هذه الأمور دفعته لكي يفكر جدياً في تقديم استقالته.
استقالته في فبراير 1954"بسم الله الرحمن الرحيم"السادة أعضاء مجلس قيادة الثورة..بعد تقديم وافر الاحترام، يحزنني أن أعلن لأسباب لا يمكنني أن أذكرها الآن أنني لا يمكن أن أتحمل من الآن مسئوليتي في الحكم بالصورة المناسبة التي ترتضيها المصالح القومية..ولذلك فإني أطلب قبول استقالتي من المهام التي أشغلها, وأني إذ أشكركم علي تعاونكم معي أسأل الله القدير أن يوفقنا إلي خدمه بلدنا بروح التعاون والأخوة"بهذه العبارات المختصرة قدم محمد نجيب استقالته في
22 فبراير 1954..وفي
25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان أقاله محمد نجيب، وحاول البيان الانتقاص من دوره وتشويه صورته أمام الجماهير فقد أكد البيان أن محمد نجيب طلب سلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس وأن يكون له حق الاعتراض علي قرارات المجلس حتي ولو كانت هذه القرارات قد أخذت بالإجماع، وادعي البيان أنه اختير قائدا للثورة قبل قيامها بشهرين، وانه علم بقيام الثورة ليلة
23 يوليو من مكالمة تليفونية من وزير الداخلية فتحرك إلي مبني القيادة وهناك تقابل مع عبد الناصر الذي وافق علي ضمه وتنازل له عن رئاسة المجلس.
اتخذ ضباط مجلس القيادة هذا القرار وكلهم ثقة في أنهم قد نجحوا في مخططهم بإزاحة محمد نجيب, المخطط الذي بدأ بإعلان الجمهورية حتي يكون محمد نجيب رئيسا رمزيا لها في حين يستحوذ ضباط مجلس القيادة علي مجلس الوزراء، وكان من ضمن المخطط إبعاد محمد نجيب عن الجيش عن طريق ترقيه الصاغ
عبد الحكيم عامر إلى رتبة
لواء دفعة واحده وتعيينه قائدا عاما للجيش وبالتالي تستحوذ ضباط مجلس القيادة علي السلطة المدنية والعسكرية.
وتصور مذكراته كيف أنه حينما أذيع بيان إقالته علي الملأ خرجت الجماهير تحتج عليه وانهالت البرقيات علي المجلس ودور الصحف ترفض الاستقالة.. واندلعت المظاهرات التلقائية في
القاهرة والأقاليم لمدة ثلاثة أيام تؤيد نجيب وكانت الجماهير تهتف (محمد نجيب أو الثورة) وفي
السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب)، وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة اللواء محمد نجيب وإقرار الحياة النيابية وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة.
وكان
سلاح الفرسان أكثر أسلحة الجيش تعاطفا مع محمد نجيب, وأشرفت البلاد علي
حرب أهلية وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا الساعة السادسة من مساء
27 فبراير 1954 جاء فيه " حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك"... وهكذا عاد محمد نجيب إلي الحكم علي أكتاف الجماهير التي خرجت في مظاهرات شعبية لم تعدها مصر من قبل.
بعد عودته علي أكتاف الجماهير كان باستطاعته أن يتخلص من ضباط القيادة الذين وجهوا له إساءات كثيرة وحاولوا أثناء الأزمة تشويه صورته أمام الشعب إلا أن محمد نجيب عمل علي إزالة الخلاف بين أعضاء مجلس القيادة.
يقول اللواء
جمال حماد المؤرخ العسكري أثناء ندوة كتاب "
الأوراق السرية لمحمد نجيب " أي واحد كان يجي في هذا الموقف ويحرز هذا الانتصار الباهر... معاه سلاح الفرسان والشعب كله معاه... ومع ذلك أنا رأيته بعيني ماسك أيديهم " أعضاء مجلس قيادة الثورة" ورفعها وقال
"إحنا يد واحدة"، وأن ضباط مجلس القيادة أرادوا التخلص منه في
مارس بعد هدوء الأزمة !!
أزمة مارس 1954حددت هذه الأزمة تاريخ
مصر إلي الآن, فلم تكن أزمة مارس مجرد صراع علني علي السلطة بين اللواء محمد نجيب وأعضاء
مجلس قيادة الثورة بل كانت الأزمة أكثر عمقا, كانت صراعا بين اتجاهين مختلفين اتجاه يطالب
بالديمقراطية والحياة النيابية السليمة تطبيقا للمبدأ السادس للثورة (إقامة حياة ديمقراطية سليمة)، وكان الاتجاه الآخر يصر علي تكريس الحكم الفردي وإلغاء الأحزاب وفرض الرقابة علي الصحف.
كانت ضربة البداية في أزمة
مارس من جانب محمد نجيب الذي بدء فور عودته إلي الحكم مشاوراته مع مجلس القيادة للتعجيل بعودة الحياة البرلمانية, وفي ليلة
5 مارس صدرت قرارات ركزت على ضرورة عقد جمعية لمناقشة الدستور الجديد وإقراره، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحف والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.
" كانت هذه القرارات في صالح عودة الحياة الديمقراطية، وهنا أدرك الفريق المناوئ للواء نجيب أن كل الخطط التي أعدت للإطاحة به مهددة بالفشل, فبدأ يدبر مخططات أخرى من شأنها الالتفاف علي قرارات
5 مارس والعودة إلي الحكم الفردي.
في
25 مارس 1954 اجتمع
مجلس قيادة الثورة كاملا وانتهي الاجتماع إلي إصدار القرارات التالية : السماح بقيام الأحزاب، مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزبا، لا حرمان من الحقوق السياسية حتي لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا بدون تعيين أي فرد وتكون لها سلطة البرلمان كاملة والانتخابات حرة، حل مجلس الثورة في
24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها.
يقول محمد نجيب في كتابه "كنت رئيسا لمصر" : "كانت هذه القرارات في ظاهرها ديمقراطية وفي باطنها فتنة وتوتر, فقد أثارت الناس الذين لم يرق لهم أن تعود الأحزاب القديمة بكل ما توحي من فساد وتاريخ اسود, وبكل ما توحي لهم بنهاية الثورة التي عقدوا عليها كل آمالهم في التطهر والخلاص, وأثارت هذه القرارات ضباط الجيش الذين أحسوا أن نصيبهم من النفوذ والسلطة والمميزات الخاصة قد انتهي"
وقد ضاعف من قلة حيلة اللواء نجيب انشغاله مع
الملك سعود بن عبد العزيز الذي كان يزور
مصر وقتها، بينما كان معارضوه يدبرون لتوجيه الضربة القاضية إلي اللواء نجيب، فنشرت الصحف أن هناك اتصالات سرية بين اللواء نجيب و
الوفد، وفي نفس الوقت عقد عبد الناصر اتفاقا مع
الأخوان المسلمين لكي يتخلصوا من الأحزاب السياسية ويخلو الجو للطرفان.. ووافق الأخوان وكان هذا خطأ استراتيجيا.
في يوم
28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط
الديمقراطية والأحزاب والرجعية، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافاتها ومنها " لا أحزاب ولا برلمان", ووصلت الخطة السوداء ذروتها, عندما اشترت مجموعة عبد الناصر صاوي أحمد صاوي رئيس اتحاد عمال النقل ودفعوهم إلي عمل إضراب يشل الحياة وحركة المواصلات, وشاركهم فيها عدد كبير من النقابات العمالية وخرج المتظاهرون يهتفون" تسقط الديمقراطية..تسقط الحرية", وقد اعترف الصاوي بأنه حصل علي مبلغ 4 آلف جنية مقابل تدبير هذه المظاهرات.
كسب أعضاء مجلس قيادة الثورة المعركة ضد محمد نجيب وصدرت قرارات جديدة تلغي قرارات
25 مارس، وفي
26 أكتوبر وقعت حادثة
المنشية والتي اتهم فيها الأخوان بمحاولة التخلص من عبد الناصر ليتم بعدها القبض علي قيادات الجماعة والزج بهم في السجن.
إعفائه من رئاسة الجمهورية وتحديد إقامته انهزم محمد نجيب في
معركة مارس 1954 والواقع أنها لم تكن خسارته فقط وإنما كانت خسارة لمسيرة
الديمقراطية في
وادي النيل, أصر نجيب علي الاستقالة لكن عبد الناصر عارض بشدة استقالة نجيب خشية أن تندلع مظاهرات مثلما حدث في
فبراير 1954، ووافق محمد نجيب علي الاستمرار انقاذا للبلاد من
حرب أهلية ومحاولة إتمام الوحدة مع
السودان.
يوم 14
نوفمبر 1954 توجه محمد نجيب من بيته في شارع سعيد بحلمية الزيتون إلى مكتبه ب
قصر عابدين لاحظ عدم أداء ضباط البوليس الحربي التحية العسكرية، وعندما نزل من سيارته داخل القصر فوجئ بالصاغ حسين عرفة من البوليس الحربي ومعه ضابطان و١٠ جنود يحملون الرشاشات يحيطون به، فصرخ في وجه حسين عرفة طالباً منه الابتعاد حتي لا يتعرض جنوده للقتال مع جنود الحرس الجمهوري، فاستجاب له ضباط وجنود البوليس الحربي.
لاحظ نجيب وجود ضابطين من البوليس الحربي يتبعانه أثناء صعوده إلي مكتبه نهرهما فقالا له إن لديهما أوامر بالدخول من الأميرالاي حسن كمال، كبير الياوران، فاتصل هاتفياً بجمال عبدالناصر ليشرح له ما حدث، فأجابه عبدالناصر بأنه سيرسل
عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ليعالج الموقف بطريقته.
وجاءه
عبد الحكيم عامر وقال له في خجل " أن
مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية فرد عليهم "أنا لا أستقيل الآن لأني بذلك سأصبح مسئولا عن ضياع
السودان أما أذا كان الأمر إقالة فمرحبا".. وأقسم اللواء
عبد الحكيم عامر أن إقامته في فيلا زينب الوكيل لن تزيد عن بضعة أيام ليعود بعدها إلي بيته, لكنه لم يخرج من الفيلا طوال 30 عاما.
خرج محمد نجيب من مكتبه في هدوء وصمت حاملا
المصحف مع
حسن إبراهيم في سيارة إلي معتقل
المرج. وحزن علي الطريقة التي خرج بها فلم تؤدي له التحية العسكرية ولم يطلق البروجي لتحيته، وقارن بين وداعه للملك فاروق الذي أطلق له 21 طلقة وبين طريقة وداعه.
فعندما وصل إلي فيلا زينب الوكيل بضاحية المرج بدأ يذوق من ألوان العذاب مما لا يستطيع أن يوصف, فقد سارع الضباط والعساكر بقطف ثمار
البرتقال واليوسفي من الحديقه.. وحملوا من داخل الفيلا كل ما بها من أثاث وسجاجيد ولوحات وتحف وتركوها عارية
الأرض والجدران, وكما صادروا أثاث فيلا زينب الوكيل صادروا أوراق اللواء نجيب وتحفه ونياشينه ونقوده التي كانت في بيته.. ومنعه تماماً من الخروج أو من مقابلة أياً من كان حتى عائلته.
وأقيمت حول الفيلا حراسة مشددة، كان علي من في البيت ألا يخرج منه من
الغروب إلي
الشروق، وكان عليهم أن يغلقوا النوافذ في عز الصيف تجنبا لل
صداع الذي